سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


هذا من الرد على القائلين لولا أنزل عليه آية والطالبين أن ينزل ملك أو تكون له جنة أو أكثر أو نحو هذا، والمعنى: لست بهذه الصفات فيلزمني أن أجيبكم باقتراحاتكم، وقوله {لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} يحتمل معنيين أظهرهما أن يريد أنه بشر لا شيء عنده من خزائن الله ولا من قدرته ولا يعلم شيئاً مما غيب عنه، والآخر أنه ليس بإله فكأنه قال لا أقول لكم إني أتصف بأوصاف إله في أن عندي خزائنه وأن يأعلم الغيب، وهذا هو قول الطبري وتعطي قوة اللفظ في هذه الآية الملك أفضل من البشر، وليس ذلك بلازم من هذا الموضع، وإنما الذي يلزم منه أن الملك أعظم موقعاً في نفوسم وأقرب إلى الله، والتفضيل يعطيه المعنى عطاء خفياً وهو ظاهر من آيات آخر، وهي مسألة خلاف، و{ما يوحى} يريد القرآن وسائر ما يأتي به الملك، أي وفي ذلك عبر وآية لمن تأمل ونظر، وقوله تعالى {قل هل يستوي} الآية، أي قل لهم إنه لا يستوي الناظر المفكر في الآيات أو المعرض الكافر المهمل للنظر، فالأعمى والبصير مثالان للمؤمن والكافر، أي ففكروا أنتم وانظروا وجاء الأمر بالفكرة في عبارة العرض والتحضيض و{أنذر} عطف على {قل}، والنبي عليه السلام مأمور بإنذار جميع الخلائق، وإنما وقع التحضيض هنا بحسب المعنى الذي قصد، وذلك أن فيما تقدم من الآيات نوعاً من اليائس في الأغلب عن هؤلاء الكفرة الذين قد قال فيهم أيضاً {أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6، يس: 10] فكأنه قيل له هنا: قل لهؤلاء الكفرة المعرضين كذا ودعهم ورأيهم لأنفسهم وأنذر بالقرآن هؤلاء الآخرين الذين هم مظنة الإيمان وأهل للانتفاع، ولم يرد أنه لا ينذر سواهم، بل الإنذار العام ثابت مستقر، والضمير في {به} عائد على {ما يوحى} {ويخافون} على بابها في الخوف أي الذين يخافون ما تحققوه من أن يحشروا ويستعدون لذلك، ورب متحقق لشيء مخوف وهو لقلة النظر والحزم لا يخافه ولا يستعد له.
قال القاضي ابو محمد: وقال الطبري: وقيل {يخافون} هنا بمعنى يعلمون، وهذا غير لازم، وقوله {الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} يعم بنفس اللفظ كل مؤمن بالبعث من مسلم ويهودي ونصراني، وقوله {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} يحتمل معنيين فإن جعلناه داخلاً في الخوف في موضع نصب على الحال أي يخافون أن يحشروا في حال من لا ولي له ولا شفيع، فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين ولأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل، وإن جعلنا قوله: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} إخباراً من الله تعالى عن صفة الحال يؤمئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب و{لعلهم يتقون} ترجٍّ على حسب ما يرى البشر ويعطيه نظرهم.


المراد ب {الذين} ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا بلال وعمار وابن أم عبد ومرثد الغنوي وخباب وصهيب وصبيح وذو الشمالين والمقداد ونحوهم وسبب الآية أن الكفار قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء، فلو طردتهم لاتبعناك وجالسناك، ورد في ذلك حديث عن ابن مسعود، وقيل: إنما قاله هذه المقالة أبو طالب على جهة النصح للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: لو أزلت هؤلاء لاتبعك أشراف قومك وروي أن ملأ قريش اجتمعوا إلى أبي طالب في ذلك، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فصوب هذا الرأي من أبي طالب عمر بن الخطاب وغيره من المؤمنين فنزلت الآية، وقال ابن عباس: إن بعض الكفار إنما طلب أن يؤخر هؤلاء عن الصف الأول في الصلاة، ويكونون هم موضعهم، ويؤمنون إذا طرد هؤلاء من الصف الأول فنزلت الآية، أسند الطبري إلى خباب بن الأرت أن الأقرع بن حابس ومن شابهه من أشراف العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا منك مجلساً، لا يخالطنا فيه العبيد والحلفاء، واكتب لنا كتاباً، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بعيد في نزول الآية، لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم يفدوا إلا في المدينة، وقد يمكن أن يقع هذا القول منهم ولكنه إن كان وقع فبعد نزول الآية بمدة اللهم إلا تكون الآية مدنية، قال خباب رضي الله عنه: ثم نزلت {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم} [الأنعام: 54] الآية فكنا نأتي فيقول لنا: سلام عليكم ونقعد معه، فإذا أراد يقوم قام وتركنا، فأنزل الله {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} [الكهف: 28] الآية فكان يقعد معنا، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم و{يدعون ربهم بالغداة والعشي} قال الحسن بن أبي الحسن المراد به صلاة مكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشياً وقيل: بل قوله: {بالغداة والعشي} عبارة عن استمرار الفعل وأن الزمن معمور به، كما تقول: الحمد لله بكرة وأصيلا، فإنما تريد الحمد لله في كل وقت والمراد على هذا التأويل قيل، هو الصلوات الخمس، قاله بن عباس وإبراهيم، وقيل الدعاء وذكر الله واللفظة على وجهها وقال بعض القصاص: إنه الاجتماع إليهم غدوة وعشياً فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما وقالوا: إنما الآية في الصلوات في الجماعة، وقيل: قراءة القرآن وتعلمه قاله أبو جعفر ذكره الطبري، وقيل العبادة قاله الضحاك: وقرأ أبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وابن عامر {بالغدوة والعشي}، وروي عن أبي عبد الرحمن {بالغدو} بغير هاء، وقرأ ابن أبي عبلة بالغدوات والعشيات بألف فيهما على الجمع، وغدوة: معرفة لأنها جعلت علماً لوقت من ذلك اليوم بعينه وجاز إدخال الألف واللام عليها كما حكى أبو زيد لقيته فينة غير مصروف والفينة بعد الفينة فألحقوا لام المعرفة ما استعمل معرفة، وحملاً على ما حكاه الخليل أنه يقال: لفيته اليوم غدوة منوناً، ولأن فيها مع تعيين اليوم، إمكان تقدير معنى الشياع، ذكره أبو علي الفارسي و{وجهه} في هذا الموضع معناه جهة التزلق إليه كما تقول خرج فلان في وجه كذا أي في مقصد وجهة {وما عليك من حسابهم من شيء} معناه لم تكلف شيئاً غير دعائهم فتقدم أنت وتؤخر ويظهر يكون الضمير في {حسابهم} و{عليهم} للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين، أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطرد هؤلاء رعياً لذلك، والضمير في تطردهم عائد على الضعفة من المؤمنين، ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبداً سبب ما قبلها، وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين، وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما هو في رزق الدنيا، أي لا ترزقهم ولا يرزقونك.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين، وذكره المهدوي، وذكر عن الحسن أنه من حساب عملهم كما قال الجمهور، و{ما عليك} وقوله: {فتكون} جواب النهي في قوله: {ما عليك} {فتطردهم} جواب النهي في قوله: {ولا تطرد} و{من الظالمين}، معناه يضعون الشيء غير مواضعة وقوله تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض} الآية {فتنا} معناه في هذه الآية: ابتلينا، فابتلاء المؤمنين بالمشركين هو ما يلقون منهم من الأذى، وابتلاء المشركين بالمؤمنين هو أن يرى الرجل الشريف من المشركين قوماً لا شرف لهم قد عظمهم هذا الدين وجعل لهم عند نبيه قدراً ومنزلة، والإشارة بذلك إلى ما ذكر من طلبهم أن يطرد الضعفة و{ليقولوا} معناه ليصبر بحكم القدر أمرهم إلى أن يقولوا، فهي لام الصيرورة كما قال تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8] أي ليصير مثاله أن يكون لهم عدواً وقول المشركين على هذا التأويل {أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا} هو على جهة الاستخفاف والهزء ويحتمل الكلام معنى آخر وهو أن تكون اللام في {ليقولوا} على بابها في لام كي وتكون المقالة منهم استفهاماً لأنفسهم ومباحثة لها وتكون سبب إيمان من سبق إيمانه منهم، فمعنى الآية على هذا التأويل وكذلك ابتلينا أشراف الكفار بضعفاء المؤمنين ليتعجبوا في نفوسهم من ذلك ويكون سبب نظر لمن هدي.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول أسبق والثاني يتخرج، ومنّ على كلا التأويلين إنما هي على معتقد المؤمنين، أي هؤلاء منّ الله عليهم بزعمهم أن دينهم منة، وقوله {أليس الله بأعلم بالشاكرين} أي يا أيها المستخفون أو المتعجبون على التأويل الآخر ليس الأمر أمر استخفاف ولا تعجب، فالله أعلم بمن يشكر نعمته والمواضع التي ينبغي أن يوضع فيها فجاء إعلامهم بذلك في لفظ التقدير إذ ذلك بين لا تمكنهم فيه معاندة.


قال جمهور المفسرين: {الذين} يراد بهم القوم الذين كان عرض طردهم فنهى الله عز وجل عن طردهم، وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ويؤنسهم، وقال عكرمة وعبد الرحمن بن زيد {الذين} يراد بهم القوم من المؤمنين الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة فأمر الله نبيه أن يسلم عليهم ويعلمهم أن الله يغفر لهم مع توبتهم من ذلك السوء وغيره، وأسند الطبري عن ماهان أنه قال نزلت الآية في قوم من المؤمنين استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب سلفت منهم فنزلت الآية بسببهم.
قال القاضي أبو محمد: وهي على هذا تعم جميع المؤمنين دون أن تشير إلى فرقة، وقال الفضيل بن عياض: قال قوم للنبي صلى الله عليه وسلم إنَّا قد أصبنا ذنوباً فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية، وقوله {بآياتنا} يعم آيات القرآن وأيضاً علامات النبوة كلها، و{سلام عليكم} ابتداء والتقدير: سلام ثابت أو أوجب عليكم، والمعنى: أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، وقيل المعنى أن الله يسلم عليكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية حكاه المهدوي، ولفظه لفظ الخبر وهو في معنى الدعاء، وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة إذ قد تخصصت، و{كتب} بمعنى أوجب، والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلاً إلا إذا أعلمنا أنه قد حتم بشيء ما فذلك الشيء واجب، وفي: أين هذا الكتاب اختلاف؟ قيل في اللوح المحفوظ، وقيل في كتاب غيره لقوله عليه لاسلام في صحيح البخاري: إن الله تعالى كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وقرأ عاصم وابن عامر: أنه بفتح الهمزة في الأولى والثانية، ف أنه الأولى بدل من الرحمة وأنه الثانية خبر ابتداء مضمر تقديره: فأمره أنه غفور رحيم، هذا مذهب سيبويه وقال أبو حاتم فإنه ابتداء ولا يجوز هذا عند سيبويه، وقال النحاس: هي عطف على الأولى وتكرير لها لطول الكلام، قال أبو علي. ذلك لا يجوز لأن {من} لا يخلو أن تكون موصولة بمعنى الذي فتحتاج إلى خبر أو تكون شرطية فتحتاج إلى جواب، وإذا جعلنا فأنه تكريراً للأولى عطفاً عليها بقي المبتدأ بلا خبر أو الشرط بلا جواب، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي إنه بكسر الهمزة في الأولى والثانية، وهذا على جهة التفسير للرحمة في الأولى والقطع فيها، وفي الثانية إما في موضع الخبر أو موضع جواب الشرط وحكم ما بعد الفاء إنما هو الابتداء، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية، وهذا على أن أبدل من الرحمة واستأنف بعد الفاء، وقرأت فرقة بكسر الأولى وفتح الثانية حكاه الزهراوي عن الأعرج وأظنه وهماً، لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع، وقال أبو عمرو الداني: قراءة الأعرج ضد قراءة نافع، والجهالة في هذا الموضع تعم التي تضاد العلم والتي تشبه بها، وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة، إذ قد فعل ما يفعله الذي لم يتقدم له علم، قال مجاهد: من الجهالة أن لا يعلم حلالاً من حرام ومن جهالته أن يركب الأمر، ومن هذا الذي لا يضاد العلم قول النبي عليه السلام في استعاذته «أو أجهل أو يجهل عليّ»، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كثلوم]: [الوافر]
ألاَ لاَ يَجْهَلَنْ أحَدُ عَلَيْنَا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا
والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة والجهالة الحقيقية يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب ولا يعذر بها في كبيرة، والتوبة الرجوع، وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه، والإشارة بقوله {وكذلك} إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين وبيان فساد منزع العارضين لذلك، وتفصيل الآيات تبيينها وشرحها وإظهارها، واللام في قوله {ولتستبين} متعلقة بفعل مضمر تقديره ولتستبين سبيل المجرمين فصلناها، وقرأ نافع: {ولتستبين} بالتاء أي النبي صلى الله عليه وسلم، {سبيلَ} بالنصب حكاه مكي في المشكل له، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: {ولتستبين سبيلُ المجرمين} برفع السبيل وتأنيثها، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي {وليستبين سبيلُ} برفع السبيل وتذكيرها، وعربُ الحجاز تؤنث السبيل، وتميم وأهل نجد يذكرونها، وخص سبيل المجرمين لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال وهم أهم في هذا الموضع لأنها آيات رد عليهم، وأيضاً فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين، وتأول ابن زيد أن قوله {المجرمين} يعني به الآمرون بطرد الضعفة.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11